وهناك تقارير في صحف ذلك الزمان وملاحظات شخصية ذكرت أنّ الناس في أواخر ثلاثينات القرن الماضي كانوا يجتمعون حول أجهزة الراديو التي كانت تعتبر ترفاً آنذاك، ليتسقطوا أخبار تقدم الجيش الألماني على الجبهات، وهم على الأرصفة وأمام المقاهي. وكانت أخبار الانتصارات العسكرية هذه تلهب خيال الجموع في الشوارع، إذ أن كلّ انتصار كان يوازي في نظرهم آنذاك هزيمةً لقوى الاستعمار السوفيتي والبريطاني، فيستقبلون ذلك بالهتاف والتصفيق.

كانت تلك الحقبة التاريخية الوحيدة في التاريخ الإيراني المعاصر، التي كان فيها رجال السلطة الإيرانيون ينظرون بتعاطف إلى الأخبار والتقارير القادمة من أماكن تقع خلف الحدود. وعلى الرغم من أنّ الحكومة الإيرانية حافظت على حيادها المزعوم أثناء اضطرابات الحرب العالمية كلّها، إلا أنّ الشاه الديكتاتوري الذي كان يخشى البريطانيين بشدة ويتمنى هزيمتهم في أعماقه، لم يخف ارتياحه بالانتصارات العسكرية الألمانية. لكنّ الرقابة اتخذت في تلك الفترة بالذات شكلاً سافراً، فكان عملاء الشرطة السياسية يفتشون المطابع ليلاً ويراجعون مقالات الجرائد، ثم يحذفون الأخبار غير المرغوب فيها.

محطة بي بي سي في ظلّ غياب الإعلام المستقل

بعدما احتلت قوات الحلفاء طهران في آب\سبتمبر 1941 نُفي الشاه وأنهيت ظاهرة التجمعات أمام المقاهي على نحو عاجل. وحظر المحتلون الاستماع إلى الإذاعة الألمانية؛ ولم يكتفوا بذلك وحده، بل كانوا يصادرون السيارات التي تحمل جهاز راديو في عرض الشارع، مثلما ورد في بعض التقارير. وعلى العكس من ذلك، سمحت قوات الاحتلال بسماع البرنامج الفارسي في محطة بي بي سي، فهي لم تر ضرورة في منعه؛ إذ أنّ الجرائد بدأت تصيغ جميع تقاريرها الواردة من جبهات القتال لمصلحة الحلفاء، نظراً لوجود جنودهم في البلاد. فأتيح حينئذ لمحطة بي بي سي ما يكفي من الوقت لانتظار دورها التاريخي.

وبعد ذلك بخمسة وثلاثين عاماً تقريباً، وبعدما انتشرت الإشاعات التي تحدثت عن تغيير النظام، وبعد أن استعادت المعارضة الضعيفة الناجية من ملاحقة الشاه ثقتها بنفسها من جديد، كانت المحطة الفارسية في قناة بي بي سي المحطة الوحيدة تقريباً التي أذاعت مطالب المعارضة. وتمكنت المحطة البريطانية من أن تخلي شوارع طهران من المارة بانتظام ولمدة خمس وأربعين دقيقة من البثّ اليومي. وقد حظيت أخبار بي بي سي بأصداء واسعة أيضاً في الشهور الأخيرة من الملكية، وذلك لأنّ الصحافة الإيرانية دعت إلى إضراب شامل في عموم البلاد لمدة شهرين كاملين. وفي تلك الفترة بالذات التي كان فيها المواطنون يتهلفون لسماع التقارير فسحت الصحافة المحلية المجال واسعاً لراديو بي بي سي لممارسة تأثير حاسم على الأحداث.

وقد كتب السفير البريطاني السابق في مذكراته بأنّ الشاه كان يتوسل إليه دائماً بغية أن تمارس حكومته ضغطاً على تلك الإذاعة بسبب تحيزها في نشر الأخبار، وكانت حيرة السفير كبيرة أثناء تلك اللقاءات. وبالطبع أنّه كان يلجأ دائماً إلى الدفاع الممل والمرهق عن حرية الصحافة في بلده بريطانيا. ولعلّ الشاه، الذي كان يشكّ دائماً بمواقف البريطانيين، لم يكن مطلعاً آنذاك على وثائق الأرشيف المركزي لقناة بي بي سي. إحدى هذه الوثائق تكشف عن أنّ الحكومة البريطانية أوحت إلى قناة بي بي سي بأنّ من الضروري أن تستأنف نشاطها الدعائي عبر البرنامج الفارسي، وذلك على ضوء الصراع الذي نشب مجدداً حول تأميم النفط في نهاية الحرب العالمية الثانية.

ففي الوقت الذي ينكر فيه التقدم التقي الأكاذيب فإنّ خطراً ينشأ دائماً جرّاء ذلك، وهو أن هذا التقدم سيفسح المجال لأكاذيب أكبر حجماً.

الصحافة مهنة ملعونة

لم يثق المواطنون الإيرانيون أبداً بالصحافة المحلية طيلة تاريخ إيران الحديث، ولم يثقوا كذلك ببيانات المسؤولين السياسيين عن الشؤون الداخلية. فالصحافة المحلية التي يتوجب عليها المرور برقابة صارمة ومعقدة لم تقنع أحداً قطّ بتقاريرها. وينطبق هذا الأمر بصورة أسوأ على التلفزيون والإذاعة الرسميين اللذين يحتكرهما النظام. والثمن الباهض لنشر الحقيقة أجبر الصحفيين على التصرف ضمن حدود معينة في معظم المراحل التاريخية. فبعد انقلاب وكالة المخابرات المركزية CIA في إيران عام 1953 أُحرق أحد الصحفيين المعتقلين، والذي أفشى ببعض الأسرار مستغلاً الفترة القصيرة لحرية الصحافة النسبية، أحرق حيّاً في حضور شقيقة الشاه التوأم.

وتتمتع وسائل الإعلام الناطقة بالفارسية وتقاريرها وبرامجها الواردة من مناطق ما وراء الحدود، فتكون بناءً على ذلك خارج تأثير الحكومات الإيرانية المتعاقبة، تتمتع باحترام بالغ من قبل الإيرانيين مثلما هي اليوم أيضاً. وهذا يبرهن على أنّ الإيرانيين ينزعون دائماً إلى السير على خطى "التاريخ".

الرقابة والقمع

كان الاستماع إلى محطة أجنبية في زمن الشاه، وبالأخصّ المحطات التي كانت تبثّ من موسكو وبكين، أو بغداد، يعتبر مخالفة كبيرة نوعاً ما. وأحياناً كان المستمع لهذه المحطات يختفي فجأةً. وإذا ما استسفر الجيران عن سبب غيابه، يتلقون إجابة مليئة بالإيحاءات الغامضة ومفادها بالطبع هو أنّه ارتكب جنحةً سياسية. وحالما يطلق سراحه يدرك الجيران بأنّ نشاطه السياسي كان يقوم فقط على سماع محطات المعارضة.

ومازالت ردود الأفعال الرسمية على حبّ الإنصات للإعلام الناطق بالفارسية في الخارج تتسم بالحساسية. ومن الأحداث الغريبة والمرعبة التي شهدها المجتمع الإيرانيفي السنوات الأخيرة نذكر الحدث التالي: فجأةً توقفت سيارة شحن وقفز منها عدد من رجال الشرطة الشباب وهرعوا فوراً نحو سلالم المنازل، وبعد ذلك بدقائق قليلة بدأوا بقذف أطباق الأقمار الاصطناعية من سطوح المنازل إلى الشارع، ثم صادروا جهاز استقبال البثّ وسلّموا أصحاب المنزل طلباً خطيّاً لمراجعة مركز الشرطة المحليّ فوراً. هذه المشاهد كانت تتكرر كثيراً لدرجة أن الناس لم تعد تحمل طلبات المراجعة محمل الجدّ. بل كانت تُنصب على الأغلب أطباق لاقطة جديدة محلّ الأطباق القديمة، كما لو أنّ شيئاً لم يحدث قطّ. ففي كلّ مجتمع يعيش فيه الناس في حالة من القلق والاضطراب الدائمين، ترى هؤلاء الناس يتلهفون لمعرفة ما يحدث خلف الجدران، حتى لو جازفوا بحياتهم عند الضرورة.

عالم أعزل

وفي العقود الأخيرة جعل التقدم التقني الشامل العالمَ الإيراني، الذي وضعته السياسة والتقاليد، وبمعونة ماكينة دعائية شاملة أيضاً، تحت مظلة أمنية لتحميه من التأثيرات الخارجية الضارة كما يدّعى، جعل العالمَ الإيراني أعزل تماماً وخالياً من الحدود. وقد شهد أحد أفلام الفيدو، الذي عرض مشهد استجواب مخيفاً، شهد انتشاراً كبيراً عبر شبكة الإنترنت قبل بضع سنوات، حتى أنّ رئيس البرلمان اضطر آنذاك لمجابهة وزير العدل بهذا الأمر. وبعد ذلك بسنتين أو ثلاث سنوات انتشر خبر بسرعة البرق عبر الإنترنت على صعيد العالم كلّه، تحدث عن اعتقال ضابط برتبة كبيرة في الشرطة الإيرانية في حضور سبع من النساء العاريات في أحد بيوت الدعارة. وقد أكدّ غيابه المفاجئ عن الساحة السياسيّة صحّة نبأ اعتقاله، بيد أنّ السبب الحقيقي للاعتقال بقيّ غامضاً. وكان هذا الرجل المحترم مكلفاً بتنبيه النساء غير المحجبات على نحو كاف في شوراع طهران بضرورة الالتزام بالحجاب. قبل ذلك بفترة وجيرة تحوّلت جميع أرصفة طهران إلى أسواق شعبية لبيع الأقراص المدمجة والتي عرضت مشاهد لممثلة محبوبة ومحتشمة كانت تمثّل في إحدى المسلسلات الشعبية المشهورة، فأظهرتها وهي تمارس الحبّ مع رجل في فيلم جنسيّ منتج بأسلوب الهواة!

ووصل هذا الفيلم إلى السوق عن طريق أحد التقنيين والذي كان قد صلّح جهاز الكمبيوتر الجوّال لهذه الممثلة. لكن هذا الأمر لم يكن مهماً، إنما المهم هو أنّ الإنسان الإيراني بات يواجه قضيتين متناقضتين في آن واحد، قضيتين متعلقتين بالسلوك. ففي الوقت الذي يسبغ فيه التلفزيون الرسمي أرفع القيم الإخلاقية على الساسة الإيرانيين نرى قنوات المنفى التلفزيونية تظهر هؤلاء الساسة بصورة كاريكاتورية تحطّ من قدرهم وتضعهم في أسفل الدرك الإنساني؛ وهذا اختلاف يتطابق في الواقع مع التفريق بين الله والشيطان.

الإنترنت شيطان العصر الحديث

نعم، لقد دخل الإنسان الإيراني القرن الواحد والعشرين وهو يحمل هذا الإرث. ووفقاً لإحصائيات نشرت قبل فترة قصيرة، فإنّ 28,5 مليون إيراني يستخدمون شبكة الإنترنت، ويتجاوز عدد المستخدمين هذا معدلات الاستخدام في آسيا؛ وتحتل إيران الموقع الأول في الشرق الأوسط في هذا المضمار. وحوّلت المشاهد، التي التقطت بالهواتف الخلوية إثر انتخابات الرئاسة المثيرة للجدل في شهر حزيران\ يونيو من العام الماضي والأحداث التي أعقبتها، حوّلت جميع سكّان طهران إلى مراسلين صحفيين. وأحياناً كانت تصل إلى شبكة الإنترنت حتى مكالمات مفوضيّ الشرطة الذين يصدرون الأوامر بشنّ هجمات عنيفة، أو كان يعرض فيديو كليب قصير يظهر مركبة شرطة وهي تسحق بعجلاتها متظاهراً شاباً. فالوظيفة التنويرية للإعلام الحديث مهمة، لدرجة أنّ الرسالة المرئية لحادثة مصرع شابة إيرانية باسم نداء أمام الكاميرا على رصيف شارع في طهران انتشرت في جميع أنحاء العالم خلال ساعات قليلة. وأثار نشر الصور التي تظهر الجسد الممزق لشاب في معتقل "كهر يزك" على مواقع الإنترنت صدمةً كبيرة، الأمر الذي أجبر البرلمان على تشكيل لجنة تقصي الحقائق، لمعرفة الظروف المحيطة بهذا الحدث. وتغيرت الحياة العامة للمواطنيين الإيرانيين بفضل الإمكانيات التي يوفرها المجال المرئي على شبكة الإنترنت تغيّراً جذرياً، كما لو أن الحياة نفسها أصبحت تدور داخل بيت من زجاج. هذه التغيرات العميقة حدثت في محيط ثقافي يصرّ بالإلحاح على التزام بالسرية والتستّر والتحجّب.

وبالنظر إلى هذه المعطيات فإن شعار "كلّ مواطن هو وسيلة إعلام" أصبح من أشهر الشعارات أثناء التحرك الجماهيري الأخير، وذلك من أجل التشديد على أهمية إرسال التقارير عن احتجاجات الشوارع عبر الرسائل الإلكترونية القصيرة في الهواتف الخلوية. فليس من العجب أن يتحول كلّ مواطن في ظل هذه الظروف إلى متهم.

القوة السحرية للرسائل الإلكترونية

وتتماشى السياسة الحالية في إيران مع التطبيق العملي للأشياء الخالية من المحتوى، ففي اللحظة التي تخفّ فيها المعاناة المقترنة بهذه السياسة تتاح الفرصة للسخرية والضحك الجماعيين، فينسى الناس عزلتهم حسب تحليل هنري بيرغسون. فكان حجم النكات السياسية التي يتبادلها الأصدقاء والأقرباء مع بعضهم البعض عبر الشبكة الإلكترونية كبيراً قبل الصراع حول نتائج الانتخابات الأخيرة، لدرجة أن شركة "تيلكوم" الإيرانية للاتصالات سجلت رقماً قياسياً في عدد الرسائل الإلكترونية القصيرة. هذه الرسائل كانت تقوّض الأطر الشكلية للأجهزة المدنية الرسمية وقدسيتها ، تلك الأجهزة التي تدعم بلا انقطاع موقعها عبر الدعاية، فتطيح تلك النكات بسلطتها وهيبتها. ولهذا السبب اكتسب ردّ الفعل الطبيعيّ على هذه النكات أهمية اجتماعية بارزة.

حرب موجات الأثير

ومن البديهي أن الحكومة التي تقف على الطرف النقيض من الصراع لا تكتفي بموقف المتفرّج، بل تكافح ذلك باستخدام أحدث التقنيات. وقد بدأت في الواقع محاصرة بعض المواقع الإلكترونية المعينة فوضعت تحت إشراف المجلس الأعلى للثقافة الثورية قبل سنوات. بيد أنّ قطع اتصالات الهواتف الخلوية في الأيام الحرجة كان ينمّ عن إستراتيجية جديدة. وكان استخدام إشارات التشويش لعرقلة استقبال البرامج التي تبثها الأقمار الاصطناعية يمثل إستراتيجية أخرى استندت إليها الحكومة الإيرانية مؤخراً. وانبثق في الوقت نفسه جدال في الإنترنت حٌذّرت فيه الحكومة من خطر تعرّض الأشخاص المستهدفين بإشارات التشويش إلى الإصابة بمرض السرطان، وقد أشغل هذا الجدال الرأي العام، لكنّ الحكومة لم تحرك ساكناً كسابق عهدها. وعلى العكس من ذلك فقد هددت شركة فرنسية متخصصة في الأقمار الاصطناعية، والتي وضعت إمكانياتها التقنية في خدمة الحكومة، بأنها ستوقف خدماتها، بما في ذلك استقبال القنوات الإخبارية لبرنامج "الجيوديسية Geodäsiesatelliten " التي تعتمد على الأقمار الاصطناعية في حالة استمرار الحكومة بأعمال التشويش. ونحن نقف في الوقت الحاضر شهوداً على حرب إلكترونية حقيقية.

وكانت مكالمة هاتفية واحدة في هذه السنوات كافية لإيقاف جريدة عن الصدور، ولا تنفع الشكوى ولا المحكمة ولا الدفاع ولا هيئة المحلّفين للحيلولة دون ذلك. وقد اعتقل تسعون صحفياً في هذا البلد عام 2009، وأعلنت لجنة الدفاع عن الصحفيين [CPJ ] بأنّ ثلث الصحفيين المعتقلين على صعيد العالم كلّه يقبعون في السجون الإيرانية. فلا غرابة أنّ يتحول الشارع إلى بديل عن جميع الصحف المحظورة أثناء الأزمة الأخيرة، وأن يحتل المواطنون مكان التجمع العام هذا في بعض الأيّام، ليعبروا عن رفضهم لكبت الأصوات. وفي الوقت ذاته تحطّ الآف الفيدو كليب والأغاني والرسوم الكاريكاتورية والمصلقات والكتابات في الشبكة الإلكترونية على صعيد عالمي من سمعة الجرائد الرسمية التي تدعي بأنّ الحياة تسير على نحو طبيعيّ.

التأرجح الأخلاقي

هذا السيل من الأنباء المتضاربة والذي خلّفه أسلوب الخداع بين أوساط الإيرانيين طرح أيضاً سؤالاً مبدئياً هو: أين تكمن الحقيقة في ظلّ هذه الفوضى؟ ففي الوقت الذي قدر فيه الإعلام الرسمي عدد المتظاهرين بمناسبة ذكرى الثورة الإسلامية في الحادي عشر من شباط/ فبراير بمليون شخص كشفت الصور التي التقطها محرك البحث الجغرافي غوغل (Google Earth) عن أنّ القسم الأكبر من ميدان آزادي الذي جرت فيه المظاهرات كان خالياً من الناس. بعد ذلك جرى إتمام هذه الصور بلقطات لطوابير طويلة من حافلات نقل الأفراد التي جاءت لتقلّ حشود المتظاهرين من ضواحي طهران، وربما من مناطق أبعد من ذلك، الأمر الذي يفصح عن أن هذه المظاهرات كانت منظّمة مسبقاً، مما يضع ادعاء الدعاية الرسمية بأنها جاءت تلقائيةً موضعَ الشكّ. وصار كلّ طرف يتهم الطرف الآخر بالتلاعب، بيد أنّ أنباء الإعلام الرسمي هي التي كانت تقف على النقيض في الواقع من أقوال شهود العيان. وقد جعل تصرف وسائل الإعلام هذه التي تدعي بأنها تدافع عن الأخلاق والقيم الإنسانية، جعل المجتمع الإيراني يعيش حالة من التأرجح الأخلاقي.

وبالنظر إلى هذه العوالم البصرية والمواقع والمدوّنات الإلكترونية الإخبارية، إضافة إلى جميع القنوات الإذاعية والتلفزيونية التي تبثّ باللغة الفارسية من جميع أنحاء العالم فإن وسائل الإعلام الرسمية في إيران باتت تقف معزولةً نسبياً. ولهذا السبب احتلت مفردة معينة أهميةً خاصةً من بين جميع المفردات الأخرى في رؤية الإنسان الإيراني الذي يستند في قناعاته على التجربة اليومية ألا وهي: الأكذوبة. وتحدث قادة حركة الاحتجاجات الأخيرة مراراً عن "سلطة الكذب" ولأسباب مختلفة. وقال مرشّح الرئاسة مير حسين موسوي الذي رفض نتيجة الانتخابات أثناء نقاش تلفزيوني إنّ "المرء ليعجب من كثرة الأكاذيب الشائعة" في البلاد.

حملة الذئاب

في الوقت الذي كانت فيه جنحة الكثير من المعتقلين بسبب الاضطرابات الأخيرة تنحصر فقط في أنهم صوروا بهواتفهم الخلوية الشرطة وهي تهجم على المتظاهرين بالضرب، عرضت محطة بي بي سي الفارسية فجأةً فيلماً قصيراً، أخضع للرقابة، أظهر قوات الشرطة وهي تهجم على السكن الطلابي التابع لجامعة طهران، بغية إثارة استياء الناس الذين شهدوا مواقف مشابهة وتحريضهم. ففي هذه الليلة التي عرفت بليلة الجامعة السوداء، حطمت الشرطة في هذه الحملة أبواب السكن الطلابي ثم جرّت الطلاب كما تجرّ الرمم، وكوّمتهم فوق بعضهم البعض ثم أشبعتهم ضرباً، فكانت تلك وثيقة أدانة مخجلة حقّاً!

وعندما نشر الطلاب الأخبار وأفلام الفيديو، التي تناولت الهجوم البوليسي على السكن الطلابي في مواقع الإنترنت لمدة شهور كاملة، وبالدقائق، خلق هذا الفيلم الذي صوّر من وجهة نظر المهاجمين، وبكاميرا محترفة، مواقف متضاربة وشديدة التناقض من جديد. ولعلّ هذا الفيلم عُرض عن قصد، ويبدو أنّ شريطاً صوتياً أضيف إليه فيما بعد، لتبرئة ساحة بعض المهاجمين وعرض آخرين بدلاً منهم باعتبارهم مذنبين. لكنّ تضارب الآراء هذا لا يشكلّ أهمية كبيرة لما نحن بصدده هنا، بل إنّ ما يهمنا في هذا السياق هو أن الفضاء العام أصبح بالكامل ملكاً لوسائل الإعلام، وأن هذا الفيلم قد عرض أمامنا باعتباره وثيقة تاريخية إلى جانب صور سجن "أبو غريب" أو معتقل غوانتانامو التي ستبقى في أرشيف الذاكرة البشرية جمعاء.

ونظراً للإمكانيات المتنوعة المتاحة أمام كلّ فرد لعرض تجاربه وملاحظاته الشخصية فقد تحوّل صوت أولئك الذي انفصلوا عن التاريخ وصاروا ينادون بالرقابة والانتظام ملء أشداقهم، تحوّل إلى نحيب خافت لمخلوقات معزولة تقطن في أحد أركان الأرض، ولا يرغب أحد في سماعه أبداً.

ولا تشكل إيران مثلاً فريداً في هذا المعنى، إنما العالم برمته أصبح شبيهاً بإيران على نحو عصيّ على التصديق. وإذا ما عنّ لأحد أن يفهم الثورة التي فجرتها وسائل الإعلام الإلكترونية فيكفي إلى حدّ ما تسليط الضوء على إيران.