بيد أن الاختمارات الأدبية الإيرانية التي تعيش في الظل، تفاجئنا اليوم، من خلال رواية القاص الإيراني حسن جهل تن، المترجمة إلى العربية «طهران بلا سماء» (دار المدى- ترجمة سليم حمدان) بهذه اللغة المكثفة الموحية، التي اسهم في إبرازها مترجم الرواية. هذه اللغة التي تتحول احياناً إلى لغة مشفرة، توجساً وخشيةً من مقص الرقيب الذي أعمل في تقطيع الرواية وبترها. ومع ان المؤلف زوّد المترجم العربي بالمقاطع المحذوفة، غير أن هاجس الرقابة ظل يقبع داخل القاص. فكان أكثر حرية وانطلاقاً في التعبير، وانسجاماً مع ذاته، وهو يصف طهران أو طهرون، كما يلفظها الإيرانيون، في حقبة الشاه، بإيقاعها اليومي ومخاضاتها السياسية والاجتماعية. بينما كان يلجم هذا الدفق، وتلك الحيوية، حينما يتحدث عن مسار ثورة الملالي. وكنا نحبذ لو أن المترجم، أو الناشر حدّد المقاطع المحذوفة، لنضع أيدينا على ما أغضب الرقيب فغيبّه عن القارئ الإيراني. ومع كل هذا التحفظ، فإننا نستشف من خلال حوار عميق في الفصل الأخير، بين بطل الرواية كرامت وعشيقته طلا، كيف تدار اللعبة الجديدة مع تبدل الظروف، وكيف يغير الناس أقنعتهم وقناعاتهم. وحيث يشير كرامت إلى الصور والشعارات على الجدار قائلاً: «تبدل كل شيء» فإن طلا تجيبه، وقد غطت شعرها، وحمل كرامت المسبحة، على ما أضحى من علامات النظام: «لا تنخدع بالصباغ والألوان، ما زال الزمان زمننا. ما تغير هو الظاهر وليس الباطن»، ومع هذا استبدل كرامت جلده، وتحوّل من أحد فتوات الحكم الملكي، إلى مسؤول عن تعذيب المعارضين لنظام الملالي، أو ما يسميهم المفسدين في الأرض والمنافقين. وهم في غالبيتهم من الشيوعيين ومجاهدي خلق. وقد أفضى انتقاله هذا من ضفة إلى أخرى، إلى أن ينعم بما جادت به يد الثورة التي غنمت أسلاب المَلكية، فيعيش حياة باذخة، لا يكدر صفوها إلا ما ينتابه، من هاجس عودة الشاه مجدداً، أو استيلاء المعارضين على الحكم.

طفيليون جدد

في الرواية التي زُودت بهوامش تشبه خريطة الطريق، ليسير عليها القارئ العربي، ويفهم طبيعة الأمكنة وأحداثها التاريخية، نعيش من خلال سيرة كرامت مرحلة الانتقال من الملكية، إلى زمن الثورة. ومن زمن صبوات الشباب ورعونتهم، وحياة الفتوات والبلطجية وطقوسهم العنيفة، إلى زمن التحولات الدراماتيكية التي طمرت تاريخاً خصباً بتنوعه وتناقضاته وتلاطم أمواجه. زمن يطفو فيه على سطح المجتمع الجديد طفيليون وانتهازيون ومرتزقة حلوا محل أعوان الشاه وحاشيته، وتاجروا حتى بالحرب مع العراق، التي تمنوا ان تظل مستعرة عشرين، على ما يعبّر كرامت.

تراوح الرواية إذن بين عهدين يتقاطعان عند شخصية كرامت المخضرمة، التي عاشت ذواء العهد الملكي، وتلاشي قبضته على البلاد، وإرهاصات الثورة الإيرانية. ويستخدم القاص لبلوغ مأربه تقنية «الفلاش باك» وهي طريقة ذكية، ربما فرضها طيف الرقابة المنظورة والمحجوبة، المهيمن على مساحة الكتابة الروائية، ليوجد عند القارئ التباساً مقصوداً بين زمنين وعهدين، ناجماً عن تداخل الأحداث والوقائع، واليقظة والكابوس. فلا يدري القارئ إن كان ما يحدث اليوم، هو عينه ما حدث بالأمس. او إن ما يسمعه من صرخات التعذيب في الدهاليز المظلمة، ويراه من تورم أقدام المساجين ، يعود إلى زنازين الشاه، أم إلى زنازين سلطة الملالي. ولا يمكن اكتشاف هذه الفروق، وهذا الانزلاق من ماضٍ إلى حاضرٍ، إلا باستخدام الكاتب مرات ضئيلة كلمة «الآن». و الآن» كلمة تقضّ مضجع كرامت، على رغم ماضيه الصاخب والعنيف، ومغامراته النسائية، وانخراطه في سلك القبضايات والفتوات الذين كان يديرهم رؤساء النظام في عهد الشاه. وعلة ذلك أنه يسوم الذين يناصبون النظام الجديد أقسى درجات التعذيب، لذا فإنه غالباً ما يستيقظ من نومه مذعوراً، إثر كوابيس يسببها له تأنيب الضمير.

طهران الملونة

تتيح لنا سيرة كرامت المنفتحة على تقاطع الأزمنة، وتداخل الوجوه، أن نرصد التحولات، وان نستشعر التناقضات المتلبدة في فضاء طهران، قبل أن تقع في قبضة الملالي. وعندما يستعيدها البطل، نستعيد معه مدينة زاخرة بالحياة، متنوعة، متباينة، ملونة، متدفقة، مثل تيار هادر ترفده حياة الفتوات، و شهرة نجوم السينما، وعلب الليل، وصخب الأسواق والبازار، وزورخونات «نوادي» الرياضة، وحمامات السونا، وتطاير لغة الشتائم على ألسنة السفهاء، وكلام السياسيين وتجاذباتهم، وصراعات الأحزاب بين أعوان الملك، وحلفاء مصدق، ومناصري تودة. مدينة تصبو إلى الانفتاح على العصرنة والتفرنج والعالمية، قبل أن يغتالها الطارئون، والمهاجرون إليها.

أما المرأة في الرواية فهي تحتل الحيز الأكبر، حيث يمارس البطل عليها قسوة استبطنها من تجربة التشرد المبكر، وقيم المجتمع التقليدي الرجولي. فهي في نظره لا تصلح إلا لقضاء الوطر. وكان زواجه من امرأته غنجة زواجاً تقليدياً تواطأ عليه أهلها، فزفوها إليه بوصفها عبدة ، فهي على قول أمها أصبحت ملكه «سيّرها كما تريد». والمرأة العشيقة هي ايضاً مستلبة، منبوذة ومظلومة. فبتول الولهة والمتيمة بحب كرامت، تبذل كل ما تقتنيه من حلى ومصاغ لإرضائه، ومساعدته على تحسين ظروف عمله. وطلا الثرية يبتزها كرامت ايضاً ، بيد أنه عاش معها لحظات ضعف ودموع، وأحس وهو قريب منها بشعور أمومي، افتقده منذ وقت بعيد. وكان يلوذ بها، خوفاً من ذكرى طفولة مريرة تعاوده ، وتذكره باعتداء جندي إنكليزي عليه، ونومه عهد ذاك في الشوارع، وكيف أن السكارى كانوا يتبولون عليه في ظلمة الأزقة.

لم تتغير وضعية المرأة قبل الثورة أو بعدها. فقد ظلت ضروب من العنف المكتوم أو الظاهر تُمارس عليها. وظروف القهر نفسها عانى منها كرامت، على رغم كل المظاهر الخادعة التي قدم بها نفسه للآخرين. فقد كان تحت قناعه العنيف والانتهازي، يصارع من أجل الاعتراف بإنسانيته وكيانه الوجودي، والإقرار بدوره، ومكانته بين الناس.

أحمد زين الدين - الحياة