طهران مدينة بلا سماء
شادي علاء الدين
تأليف: أمير حسن
الناشر: دار المدى


معظم المدن المعاصرة مبنيّ من القسوة، ولعل هذه القسوة تظهر بأبهى شكل لها في ذلك الإصرار المتمادي على نفيها وتلوينها وتمويهها. تظهر المدن مفردات الترحيب كلها، في حين أنها لا تستقبل العشاق ولا تودعهم ولا تكرسهم نجومًا ولا تعطيهم أفضلية المكوث فيها أو السكن في المنافي، حتى أنها تجتهد في حرمانهم من العيان والنظر المباشر إليها، لأن ما يقع عليه نظر هؤلاء ليس سوى مدينة أخرى دائما، في حين أن المدينة الأصلية مدفونة في ذاكرة مؤلمة وشاقة وقاتلة دومًا .
طهران التي بلا سماء هي مدينة منذورة للهاوية. تأملتها طويلا فتركتها تنفذ فيها عبر وسائل مقنعة تفضي جميعا إلى عنوان واحد هو الغياب. هل يمكن للغياب أن يكون مدينة ؟هذا السؤال الذي يطرحه أمير حسن جهل تن في روايته «طهران مدينة بلا سماء» والصادرة حديثا عن دار المدى بترجمة سليم عبد الأمير حمدان.
الغيب الحاضر
الغيب هو صانع الشخصيات والمسرح الذي تتحرك فيه الأحداث وهو صاحب زمنها أيضا. حرص الروائي بعناية كبيرة على تجنُّب الإشارة المباشرة إلى الغيب ومارس رقابة ذاتية صارمة في هذا المجال، لكنه عوض عن هذا التغييب بنشر صيغة عامة مجبولة بالغيب كمادة أساسية لتكوين السرد وشكلا خاصا من التقنية تجعل من كل الأحداث، حتى تلك المنسوبة إلى مكان وزمان معينين تبدو وكأنها منذورة أساسا للضباب وممنوعة من الوضوح وخاضعة دوما لشراهات التأويل .
ليس الغيب المقصود هنا هو المتعلّق بالدين، لكن الكاتب يقصد الشكل الخاص لتمركز السلطة الذي يستعمل دوما فكرة الفائق ويعممها ويوسعها، سواء كانت هذه السلطة عصرية كما في عهد الشاه، أم فقهية كما في الثورة الإسلامية، إذ إن ما يوحّد بين هذين الشكلين هو واحدية التعذيب والقمع والإعتماد على تركيب علاقة لا تحضر فيه حيوات الناس إلا بقدر إمكان استعمالها وتطويعها وإهدارها .
يمثل التعذيب والقمع لحظات التماس الأكثر قربا التي يتعرف فيها المواطن الى السلطة، ولعل اللحظة الأكثر إشعاعا وحضورا في هذا المجال هو الموت، سواء كان هذا الموت تحت سياط الجلاد أو في الحروب المجهولة المعاني والعناوين فإنه صانع الطقس الذي تنظر فيه سلطة الغيب المتعسكرة إلى المواطن وتراه جثة مرذولة او مصعدة من دون أن تغير هذه النظرة من واقع الجثة شيئًا.يمارس كرامت، بطل الرواية، التعذيب كطريقة في الحياة وشكل للتفكير والتعبير، يملك من الإغراء والسطوة ما يجعله بلا منافس، فيتربع على عرش الدوافع سلطانًا متوجًّا في الأحوال كلها: {مر صف السجناء من أمامه معصوبي الأعين، من دون أن يروا، يضع كل منهم يده على كتف الذي أمامه، مروا في صف طويل أمام عينيه. تمطى وجه كرامت الغاضب في ضحكة عصبية كالنعرة على الجانبين. وضع يدا على فخذه. قال: صحيح أنني جئت من مكان بعيد. كان صميم فؤاده يقول إن هذا الهدوء مؤقت. لم يكن ذلك الماضي ماضيه؛ كان يخشى دائما أن يعود ثانية».
السجان
تلك اللحظات هي لحظات مكثفة وممتدة لا تغيب إلا لتعود وتستقر بشراسة أكثر. لا يمكن العبور من دائرتها المتوسعة باستمرار والتي لا ينفيها مرور الزمن بل يراكمها. تصبح نسبًا ونسبة. لا يرى المساجين السجان، لكنه يراهم وهنا عذابه الأكبر، لأن صورتهم عنه هي مماثلة لصورة العذاب العام وللألم. مثل هذه الصورة يسمح بالكثير من الإسقاطات والإحالات، فمن الممكن أن تتركب صورته على قياس النظام الذي يعمل لخدمته وتاليا لا يكون صاحب وجه وصفات. يحوّله عمى المسجونين إلى حالة عامة عن القمع والتنكيل والإرهاب ليس هو صاحبها ولكن مديرها وأداتها في لحظة معينة .
صور المسجونين
يجعل بصره من صور المسجونين صورا خاصة ومحددة تحيل مباشرة إلى ذاكرة متخصصة ودقيقة ومتراكمة ومعززة بالشواهد. تنحفر تلك الوجوه كعلامات على سيرة خاصة له من داخل فعل التنكيل الذي يمارسه، وهي تكرّر حضورها في كل ما يشاهده لأنها تتحول إلى مرادف لوصف الذات. لا يستطيع الجلاد إلا ان يكون جلادا حتى ولو توقف عن ممارسة هذه اللعبة الدموية . لذا يعلم بطل التعذيب أنه جاء من مكان بعيد وأنه سيعود إليه ثانية، لذا يحاول أن يسأل نفسه عما إذا كانت تلك الذاكرة القاسية ذاكرته فعلا أم أنها مشاهد محفوظة من مكان مجهول .
المرأة هي ظل من ظلال هذه الذاكرة الممتدة، لذا لا يستطيع كرامت التعامل معها بوصفها كيانًا كاملا وحيًّا بل بوصفها وسيلة لهو: {لم يكن لها بطن. كان كرامت يضع الكباب في حلقها ، من دون فائدة. تقيأت مرة أو اثنتين على السفرة بالذات.
ليست المرأة إلا صورة حاملة للحياة وقوة حضورها تتحدد بمدى سطوة تلك الصورة وقدرتها على حمل المعنى الدلالي للحياة، هذا كله يجعل من نفيها ضرورة قصوى بالنسبة لكرامت، فهو يسعى دوما إلى جعلها بلا صورة وبلا وجه وفاقدة لكل تمركزاتها الأساسية في قلب مفهوم الحياة. يحولها إلى عمى لكي يراها
هذا النوع الخاص من العمى الإلزامي هو صفة طهران التي يختار الروائي دوما لها إسم طهرون المستعار من لغة الأوباش والفتوات، فهي مدينة تستطيع تخريب كل مشاهدها بنفسها: {كانت طهرون كبيرة كبر بحر. فيها ألف شارع مسفلت، ومئة ميدان مزروع بالزهور وفيه نافورة ماء وتمثال. كان في المدن البعيدة شارع بهلوي، (اسم العائلة المالكة وهذا الشارع أطول شوارع طهران إذ أنه يخترقها من شمالها إلى جنوبها.)، واحد وميدان 6 بهمن، ( هو يوم إعلان ثورة الشاه والشعب البيضاء اي إقرار الإصلاحات الإقتصادية والإجتماعية)، واحد. لم يكن ممكنا إنشاء كل هذه الشوارع والميادين في المدن البعيدة، ولكن يمكن تخريبها جميعا في طهرون.»
منديل الخبز
طهرون مدينة تستقبل المشاهد الباذخة والضخمة التي لا يمكن إنشاؤها في المدن البعيدة لا لكي تحملها معنى بل لتعلن دوما عن قدرتها على سلبها المعنى وتخريبها بشكل تام . طهرون اللامتناهية هذه تتقلص وتضيق حين يصوب النظر إلى حياة ناسها:»وبعد ساعة يبدأون البحث، ومنديل الخبز تحت الإبط ،في الزوايا والأنحاء عن مكان نوم ومحل تبول، وعند الصباح في حواشي الميادين، لكي يركبوا ظهور شاحنات البنائين الصغيرة، يمزق أحدهم قميص الآخر. ومن يتخلفون يقضون النهار كلُّه عند حافة الجداول يخيطون الدروز الممزقة، فتمتلئ طهران رائحة وسخ وعرق.»
يحاول السياق النقدي الذي نشأ أخيرا في إيران التركيز على فكرة الثبات وأن لا شيء يتغير مع تغيّر النظام، بل يصار إلى تمكينه عبر إغنائه بعناوين جديدة للموضوع ذاته. نفهم في هذا السياق لماذا عمدت المخرجة الإيرانية مارجان سترابي إلى اعتماد تقنية الرسوم المتحركة التي تعني أن كل شيء ثابت وأن هذه الشخصيات حاملة لترميزها بشكل كامل. هذا ما يقوم أمير حسن جهل تان في هذه الرواية، فهو لا يكتب ليدين مرحلة بعينها بل ذلك الثبات القاسي والجامد الذي يجعل من طهران على الدوام مدينة بلا سماء.

شادي علاء الدين